لفت انتباهي قرار لحكومة ولاية جورجيا الأميركية عن تنفيذ إجراء تأديبي جديد يتضمن ضرب الأطفال في المدارس بعصا خشبية، وأن الحكومة كلفت المدارس بإبلاغ أولياء الأمور برسائل رسمية، طالبة إذنهم بالبدء في تنفيذ الإجراء الجديد، أو تعليق أبنائهم عن الدراسة لمدة خمسة أيام في حال عدم الموافقة.
أعادني هذا الخبر إلى حالة الجدل السنوية في وسائل التواصل الإجتماعي ووسائل الإعلام حول قضية معاقبة التلاميذ المخالفين للقواعد العامة، وغير الملتزمين، وإلى نظام الدراسة القديم، وطرق معاقبة التلاميذ في المدارس والتي كانت سمة من أهم سمات التعليم في سنوات خلت.
لست هنا في موقع المبرر للضرب في المدارس والمدافع عنه، ولكن في إطار المناقشة لكفية التعامل مع نوعيات مختلفة من التلاميذ، وحالة فوضى سلوكية بين العديد من الطلاب، وحالة إفراط في العقاب، وربما يصل إلى حد المبالغة.
لاشك ان جيلي ومن قبلي وبعدي لسنوات طويلة، كانت سمة العقاب "العصا لمن عصى" أهم أدوات التعليم، ليس في المدرسة فقط، بل في الكتاتيب الخاصة بتحفيظ القرآن الكريم، وكانت "الزُخمة"، علامة من علامات التأديب في الكتاتيب، ولمن لا يعرف الزخمة، فيه عبارة قطة من الجلد القوي اللين، مثبة في قطعة خشبية، ووفقا للمعجم هي"آ السِّياط القصير والعريض" يمسكها "شيخ الكتاب"، ليعاقب من لا يحفظ الآيات القرآنية، أو يُخطيء في نطق الألفاظ والكلمات، بينما كانت العصا هي أداة العقاب في يد المدرس.
حتما كانت هناك مبالغة تصل إلى حد الإفراط في العقاب من المدرس أو الشيخ، لكنها كانت احد الدوافع للمذاكرة، والحفظ، وكتابة "الواجب المدرسي" والتحضير للدرس القادم، ووضع الأولوية للمذاكرة بدلا من لعب الكرة، و"سلطح"، و"المضرب والعصفرة"، و"السيجة"، وشد الحبل، و"الأستغماية"، وغيرها من ألعاب وأدوات ترفيه زماننا.
والخوف من العقاب كان الدافع لصناعة رجال، وأهم الحوافز على المذاكرة، وتحمل المسؤولية، ولم يكن في زماننا تليفزيون، ولا فضائيات، ولا موبايل، وبالتالي لم يكن الفيسبوك أيضا تم ابتكاره، لكن كان هناك وسيلة التزويغ من المدارس لممارسة هوايات اللعب والترفيه، أو الذهاب إلى حفلات "سينما الترسو".
ولأسباب كثيرة ودراسات نفسية واجتماعية، خرجت دعوات تحريم بل تجريم العقاب البدني على التلاميذ، كما أن حالة الخوف على أولادنا وأحفادنا، دفعت بنا جميعا، للسير وراء هذه الدعوات، بل وصل بنا الحال إلى مطالبات أكثر شدة، ربما إلى حد اعدام المدرس الذي يمس يد أبنائنا، بل ربما مجرد النظر إليهم من تحت النظارة.
لا شك أن من حقنا أن نخاف على أولادنا، وأن نحميهم بأرواحنا قبل أجسادنا من أي مكروه، ونبالغ أكثر لنقول أن التعليم والتربية في المدرسة ليست مهمة، إذا تم مس أحد الأولاد بورقة في عملية عقاب.
وفي نفس الوقت أنا على يقين من أن هناك من المعلمين والمدرسين لديهم مبالغة في تأديب الأولاد، وبأمور واشكال تصل إلى التفريغ النفسي، وتصفية مشاكلهم وهمومهم في التلاميذ، إلا أن هذا النوع لا يمكن أن يكون ظاهرة، بل مجرد حالات محدودة.
القضية أكبر بكثير في هذا الزمان، فالمسافة بين الطلاب والتلاميذ ضاقت بشكل محلوظ، واختفت حالة الإحترام بين المدرس وتلميذه، وربما تجد طالبا ومدرسا يتبادلون "النكات" وربما السجائر فيما بينهما، وبالتالي اختفت حالة الخوف من المدرس، أو قل حالة التبجيل إما بسبب مبالغتنا كأولياء أمور في حماية أولادنا، أو من المدرس نفسه، الذي فقد قدسيته، وربما أقول لم تعد مقولة شاعرنا العظيم أحمد بك شوقي "قم للمعلم وفه التبجيلا ... كاد المعلم أن يكون رسولا". لا وجود، ولو عاش شوقي بيننا لأعلن ندمه على ما قاله.
من هنا لست داعيا إلى العقاب الذي أصبح في زمن كان، ولست مع هذا السخف في المدارس وحالات التراجع الأخلاقي، .. بل أقول أن القضية برمتها بحاجة إلى معالجة، ولابد من أن يكون هناك وسيلة علمية ونفسية لمجابهة حالات الفوضى التي تعم مدراسنا، دون أن نعود للخلف لزمن عقاب لم يعد صالحا لزمن عالم المعلومات المفتوح.. وأذكركم بقراءة بداية المقال!!.
------------------
بقلم: محمود الحضري